" دعيني أرحل أقذف كل ممتلكاتي لموج البحرِ وأخسر دعيني أصرخ وأنطلق على الشاطئ أسبُ الرمالَ والبحر دعيني أغضب وأغضب وابتعدِ وتذكري وصيتي الرابعة استقري في مكان آمن بعيداً عن نيراني لا أريدُ أن أرى انعاكساً لذلك اللهب المنفجر مني على وجنتيكِ دعيني ألاكم البحر وأسبه كثيرا فهو يخدعني ويتأوه ثم يُعيدني نطفة جديدة تأتي إليكي بصدر رحب جديد ونظيف دعيني فأنا أعلم تماما ماذا أفعل عندما أفقد السيطرة دعيني "
" تقفين منهمكة في تقطيع حبات الفراولة ترتدين ما نحب تنظرين كما نحب أناديكِ حبيبتي ! لا تجيبي يشعرُ صوتي بالحرج .. فيعلو حياتي ! يلمحُكِ قلبي تبتسمين في دهاء لذيذ ولسانك يحاول الخروج كطفل سيلهو في حديقة جده إلا أن أسنانك تتظاهر بالحكمة وتمنعه أنهض من جلستي أنوي النظر في المرآة قبل أن أقترب منكِ وأنسى كالعادة أأتي .. حقيقياً أحبكِ .. حقيقياً أقبلكِ .. أمسك أناملك بقوة أتلذذ بممارسة عشقي للفراولة التي تتربع عليها في دلال أتذوقكِ وأجيد التذوق يبهرني ملمسكِ فأجيد اللمس أسمعكِ تهمسين باسمي علي .. أسمعك ترفضين لا أبتسم بشفتينا قبل تلك القبلة التي تحبينها أتجرد من كل شيء يجعل للعالم صلةٍ بي ولا أنتمي إلا لكِ ولا أكون إلا لكِ وأخبرك بالكلمات والترانيم تذهبين معي في عالمي لترحب بكِ كل تفاصيلي ملكة متوجة ترتدي قبلتي تاجها وأتلو عليكِ قسم العرش ملكاً : معكِ .. أحب الدنيا معكِ .. أكون الوجود معكِ .. أنا معكِ .. أتناول الحياة معكِ .. الملاذ معكِ .. أنا معكِ .. أستمتع برقتي .. وشراستي بالغناء كعاشق يحمل أوتار الليل أو سيف أنا على كتف محارب مجنون في سبيلكِ أعاني وأعاني فاستمتع أحب .. أنا أكون جزيرتكِ التي تستلقين عليها تمسكين بكأس الفراولة أو سمائكِ التي تحمل الشهدَ لشفتيكِ المنتظرة لما يمسح الماض ويُعوِضُ عن كلِ ما فات نتناول حبات الفراولة بعد تلك الليلة التي وُلدنا بها من جديد ونحب ولادتنا فنعيدها مرة ثانية بعد الألف "
" تبتسمين فتعودين بي إلى طفولةٍ كنتي قد سكنتيها لفترة تضحكين فتعودين بي إلى طفولةٍ أراكِ ترسمين ألوانها انتي دوناً عن أي كان خبأتِ من تفاصيل الطفولة ألواناً .. وألوان هي نفسها الطفولة التي تمر من بين أصابع البشر ولا يقدرون إلا على تذكرها كلُ من حولكِ ابتسموا وقالوا طفلة أنا أحببتك ورأيت فيكِ الأنثى التي تمكنت من الاحتفاظِ بطفولةٍ بين كفين متشابكين بشرة لا تبوش أبداً وإنما تزداد نعومة وإثارة الطفلة لابد وان تتمتع بمزايا الطفلة كل المزايا وكل التفاصيل وانتي لا تظهرين إلا بسمة طفلة وضحكة طفلة بينما تخبئين طفولتك بين كفيك خلف ظهرك لي انتي أنثى أمامهم ومعي الأنثى .. وطفلتي "
" أقلق في نومي عيناي النصف مغمضة ترى وسادتي بصعوبة قبل أن أتمكن من استيعاب اللحظة وأين أنا من الليل رأيته يقف في نافذتي فارداً ذراعيه في ثقة غير مبررة أنه سيتمكن من الطيران قفز رأيته يختفي لأسفل وما لبث أن عاود الإرتفاع وحلق بعيداً انتفضت من فراشي كالمجنون وقفزت خلفه آمنت بقدرتي على الطيران بعدما رأيت قلبي يفعلها منذ لحظة وطرت كثيرا خلفه كنت أستمتع بمتابعته .. متعة لن توفرها لي لحظة اقتناصه في الهواء إلى أن وجدته يقتحم شرفتك ودخل غرفتك يلهث وقف بجوارك وانتي نائمة خلفه دخلت أحاول توثيقه كبلته كما لم أفعل من قبل نظر إليّ ورأيت دمعته المتكبرة عندما نظر إليكي وقال أريد أن أراها فقط "
" أقف ممسكة بيديك والبحر خلفنا يصفق لك أشعرُ في لمستِك الحانية أنك ترفعني جائزتك ذراعك تحملني للعنان لا أشعر بالأرض وأشعر بصدرك أراكَ ولا أراني إلا أراك ذراعك تنسال على ظهري تقرأ ما حدث كفيك القادمتين بالهدايا يتسللن في اللحظة الأخيرة لوجنتيّ يضحكن سوياً يقرأون الشعر في صمت عندما تقبل شفتاي "
ها انتِ على السلم المرمري، درجةٌ واحدة .. تفصلك عن تلك السحابة التي لطالما تمنيتي أن تلمسيها، معي تصعدين السلم، تجتازين كل قوانين الأرض .. وترتفعين، لا تتلهفي وتلمسي السحابة من أسفلها، انتظري لحظات ذهبية .. قبل أن تصعدي على متنها .. وانتشي بالمتعة المُحلاة .. هذا حبي الذي انتظرك تصعدي وتريه .. حبي الذي لا يستطيع النزول إلى الأرض لنا السماء .. ولنا كل شيء .. فقط إنظر ِ لما تتمن ِ ويأتيكِ كما أنتِ .. تتعلقين برقبتي كعقد من حبات الكريستال دعِ كل شيء يسقط .. حتى اسمائنا، فلنا اسم واحد سنكتشفه سويا، ولنا عناق واحد .. أبدي
حلمت يوماً أن الشاطئ قد أهدى رماله هدية زفافٍ لموجتين اعتذرا أن تكون نهايتهما الرمل، قويةٌ تلك العلاقة بين الرمل ومياه البحر، فالأولى تشبه مزيج من الموسيقى والطين الصلصال ولعل لهذا حكمة، والثانية .. ترسل أمواجاً تتسابق كالأطفال ليروا من التي ستفرش كيانها على أكبر مساحة من الرمل .. وثمة أشياء أخرى راودتني في الحلم لا أذكر سوى زهور القرنفل التي كانت تلمس رقبتي بين الحين والحين ..
لم تكن المرة الأخيرة التي رأيت فيها البحر، ولكنها لم تكن منذ زمنٍ بعيد، عندما جلست مبتلاً .. عاري الصدر غير مكترث لتلك الطبقة الرملية التي احتلت ثلث ظهري، أنظر لتلك اللوحة الصغيرة، التي أراها دائماً تائهة على سطح المياه المالحة، أشعر بعذوبة تلك النقوش المترامية على سطحها
عندما وقفت حزيناً أفتقدك، أنتظر نهاية العالم بين كل شهيق وزفير، وجاءت الأمواج تحاول مواساتي .. تربت على قدمي الثابتتين على منطقة رملية لم تعرف الجفاف يوما
طعمه كان لاذع ذاك الافتقاد، مصحوب بفكرة أنني قد لا أراكِ مرة ثانية، وأنك قد تكونِ لرجل غيري .. يا للألم !
الآن لم أعد أذكر أين وضعت ملامح تلك الأيام في ذاكرتي .. ربما مازال طعم الافتقاد موجود، لكنكِ تؤمنين بمجيئي، إنني قادمٌ لا محالة، وبين يديّ عطور السماء، أجذبك بين ذراعي فور أن تتلاقى أعيننا، أرتفع معكِ إلى عالم آخر ونترك جسدينا للبشر، وسأستمتع كثيرا بأنني الرجل المختار، التي تركت له دفة القيادة واستلقيتِ في الشمس، واثقة أنه سيمر من تلك العاصفة، ويعود ليستلق بجوارك، يداعب خصلات شعرك، يستحم برائحتك ويترك بصماتها على معصمه، سيقـُبلك قبلتك المفضلة، سيبتسم حين تبتسمين، وتبتسمين حين يبتسم
سأنتشي حين تحركين إصبعكِ بين كفي، كعصفور يطير في سماءٍ ملونة باستمتاع، وحين تنظرين إليّ تلك النظرة التي أعشقها، عندما تفتحين بوابات وجدانك الماسية وتمدِ لي يدك تدعوني للدخول .. ونصمت
امتدت أصابعه لتحكم إغلاق الزر قبل الأخير من قميصه الأسود، وكل ذرة في عقله تعلم أنه لن يخرج من باب شقته بهذا القميص، بل أنه هو نفسه يعلم تماماً أنه سيقوم بتغيير البنطلون الأسود الجينز أيضاً !
يرتدي حذاءه البني الفاخر ويراقب نفسه، وهو يتبع الأسلوب الأكثر تعقيداً في عقد الرباط، إلا أن مهارته وخفة يده تشفعان له عدم قدرته على ممارسة الربطة الكلاسيكية البسيطة !
يستند بكف يده الأيسر على ظهر الكرسي الأسواني وينظر لنفسه في المرآة، يحاول التعرف على نسخة اليوم، يتأكد أولاً من التفاصيل المشتركة بين كل الممثلين الذين ظهروا على تلك المرآة الطويلة والتي يرى فيها وقفته كاملة، دائما ما يرى نفس الجسم والملامح، إلا أن هناك تغييراً جذرياً بين كل لمحة والأخرى، حتى أنه تذكر ما حدث ليلة البارحة .. عندما ارتدى فانلته الرياضية وبنطلونه الأزرق الجينز .. ووقف أمام المرآة يحدق .. نظر في محفظته وعاد مرة أخرى للمرآة .. فوجد شخصاً جديداً .. فامتعض
رغم أنه سئم الأمر .. إلا أن فضوله يجبره على التركيز والتدقيق .. عله يوماً يرى شخصاً يشبهه في المرآة .. مرتين، إلا أن إيمانه بوجود طابور طويل داخل الحائط من أشخاص تشبهه على يسار المرآة .. خلق احتمالية أن أحدهم قد يفكر في الغش ويقف في الطابور مرة ثانية .. لمجرد الظهور في المرآة !
بعد أن ارتدى قميصه القطني الأبيض .. وبنطلون رمادي اللون .. وقف في الشرفة يفكر .. أين يذهب الواقفون في الطابور .. بعد المرآة ؟
تمر أشهر كثيرة
وقبل أن يُصاب بالجنون المنطقي لهذه المرآة، وقف عارياً وحدث نفسه قائلاً .. " هذه هي المرة الأخيرة التي سأنظر فيها لتلك المرآة "
ويبدو أنه لم يلاحظ أساسا هذا الاحتفال المُكلف، الذي حضره ألاف المدعوين ومئات الثقلاء، رمَى كل هذا خلف ظهره واتجه للقصر، ولم يستطع صخب الموسيقى أن يغطي على وقع أقدامه الواثقة
فور أن دلف من باب القاعة العالي، استند بكتفه الأيمن على واحدة من تلك الأحجار الكريمة الزرقاء التي خلقت للباب شخصيةً مهيبة، ناظراًإلى إحدى البلاطات الزجاجية التي انتشرت على الأرضية في شكل بديع، وكانت لحظة .. قبل أن يرفع عينيه لعينيها مباشرة .. فقد تعود هذا الفارس على أن يترك لقلبه الفرصة كي يجدها أولاً
ابتسم ..
تحرك نحوها بهدوء، كان قد أخذها بالفعل في عالمٍ آخر بنظرته تلك، لم تذهب عينيه بعيداً عن عيناها حتى صارت المسافة بينهما عدة سنتيمترات، اتسعت ابتسامته قبل أن يمسك يدها اليمنى بلطف ويضع فيها الباقة ..
هامساً :
مولاتي !
أسرعت إحدى الجواري بالوقوف إلى جوار أميرتها لتحمل عنها الباقة، وقبل أن تحمل الباقة وترحل .. كان قد أخذ وردة حمراء من الباقة دون أن يحوّل نظره عن الأميرة، واقترب بهدوء .. ووضع الوردة في شعرها الطويل
هامساً :
هذه لكِ !
كعادتها .. ابتسمت الأميرة في خجل .. وكعادته .. دق قلب الفارس ..
لم تكن الأميرة لتعلم كيف هو حال قلب الفارس .. حين يدق، إلا أن هذا القلب لم يفكر يوماً في الرجوع عنها، وامتلئ بإيمان رهيب .. أنها له
أعلم أنكِ الأنثى الوحيدة في الدنيا، التي تستطيع قراءة عروقي، دعي أناملك تستلقي في دلال بين كفاي، ولا تكفي عن قراءتي ... كثيرة تلك الكلمات المنقوشة على روحي ... ولن تكلفك سوى بالاً أطول ..
أحبكِ
رغم ثقتي في عشقك للقراءة، أصدرت أوامري للكلمات أن تتأن في مرورها أمام عينيكِ، ليس إلا لإضافة بعض من الحبيبات الرومانسية التي تشبه جفونك لحد بعيد .. تأملي اسمك المكتوب بلون وردي على أسقف شراييني .. نعم لم يتمكن الزمن من خط يديكِ
هذا أنا
دعي ما يجول بخاطرك كما هو، فأنا أعشق خطوة أفكارك، أتابعُ قلقها الهادئ بين نظراتك، في الوقت الذي تشتد تلك المنافسة الموسيقية بين عينيكِ التي تغرق في بحرٍ من صدق .. ونظراتك التي تجيد ارتداء فساتين السهرة الرائعة
لماذا توقفتِ عن الرقص ؟
إن كانت الموسيقى قد ابتعدت عن طعمِ تلك الرقصة، اجذبِ ذراعي وأنصتِ .. لهذا الكيان الواقفُ أمامَكِ، فبداخله تراصت النغمات في احتفالٍ من أجلكِ أنتِ،حملتها الفرحةُ على بساطٍ فيروزي طائر .. وذهبت بعيدا وهي تحملك على وجنتيها
قلقٌ .. نعم
الهوى لم يُولد بلا قلقٍ يا مولاتي .. غدا ستعلمين طعمه اللاذع .. كحبة البرتقال التي سأحملك يوماً كي تقطفيها من شجرة ليست عالية .. ولكنني سأحملك ...
مَن غيرِي تعاطفَ يوماً مع أمواجِ البحرِ في الشتاء ؟
أحَسَ بذلِك الصقيعِ الذي يُمسِكُها مِن مَلحِها
المتناثر دَاخِلها بعشوَائية ؟
"
قالها الشاطر علي بصوت مسموع وهو يقف أمام الدار شارد الذهن، هيئته توحي بأن هناك شيء شديد الأهمية يدور في خلده، فهو خلال العشر دقائق الفائتة كان قد طقطق أصابعه فوق الألف مرة، لوّح له حوالي ثماني أصدقاء ولم يعرهم اهتماما .. أو هكذا بدا للناظرين
الشاطر علي .. كان قد سافر في وقفته هذه على حصانه ومر على ذكرياته، في البداية لم يقف عند كل واحدة كثيرا، فقد كان يبحث عن شيء محدد، شيء كبير وتسهل رؤيته، لكنه لم يجد مراده بين كل تلك الذكريات المتلاطمة
الشاطر علي .. لم يبحث يوما عن شيء واستسلم، فهو على يقين غريب بأنه سيجد ما يبحث عنه، طالما يبحث وحده .. وفي وقفته هذه .. بحث كثيرا وكثيرا، ونبش بين أعوامه الماضية ولم يجد ما يبحث عنه .. تملك التعب من الحصان القوي فصهل صهيلا ضعيفا، مُـكللا باعتذارٍ للشاطر علي أن يستكمل البحث وحده .. فالحصان لا يقوى على العودة في الزمن أكثر من ذلك
الشاطر علي استمر في بحثه، حتى رأى الذكريات وما وراء الذكريات، التقط خيوط العنكبوت التي رُسمت خلف خشب الأفكار، براحتي يده .. حمل التراب المتراكم على أرفف الماضي .. وسمح لتلك المسامير الصدئة أن تجرح أنامله تلك الجروح المزعجة في سبيل الوصول لما يبحث عنه خلف القواميس والمعاجم التي التحمت في أعمدة المكتبة العجوز .. دون جدوى
الشاطر علي ... عاد من رحلته ليثبت في وقفته مرة أخرى، كتمثال نحاسي وحيد، فقدَ حصاناً .. لكنه لم يكن يقوى على الركض في الزمن على أية حال، وفقدَ في الرحلة قميصا أبيض اللون، لم يحاول أن يتذكر متى فقده بالتحديد، هل جذبه أحد ما ؟ .. أم أنها السنين وألاعيبها المستمرة في تعرية صدره .. وقف الشاطر علي ثابتا وقد ركز بصره على حجر جلس القرفصاء بجوار شجرة صغيرة .. ولما طالت النظرة بين الحجر والشاطر علي .. نطق الحجر بصوت ضعيف :
نعم .. مثلي تماما أيها الشاطر علي .. لم تعرف الدفء يوما كي تتذكره
الشاطر علي .. لتوه كان قد أحس الدفء لأول مرة في حياته، وحاول في رحلته هذه أن يتذكر متى شعر بالدفء ولم ينجح في ذلك، فقط لأنه لم يشعر دفءً من قبل
فالشاطر علي .. ظل يرتجف كل لحظة من عمره .. لأنه كان يشعر بالبرد، وفي هذا البيت .. علم الشاطر علي أن لا علاقة للدفء بالصوف .. فالدفء في البشر
كنت في التاسعة من العمر، عندما قلقت من نومي على تلك المرتبة الصحية الراقدة على نوعا من أنواع الموكيت الفاخر، بعيدا عن منزلي الذي اعتدت اللعب فيه، وبعيدا عن غرفتي التي حولتها يوما ما إلى خيمة وانتقلت بها إلى غابة مليئة بالدببة الشرسة في خيالي النضر ..
أقلق من نومي فجراً، أجد مصدراً لضوءٍ خافت .. خافت للغاية، بالكاد أستطيع تمييز حوائط تلك الغرفة التي كنت نائما بها، وأرى أخي محمد الذي يصغرني بعام وأقل من النصف، نائما ناحية الزاوية المقابلة لي، على مرتبة مماثلة لخاصتي ..
الجو الصامت العميق .. ذلك الصمت الذي يتردد داخل طفل في التاسعة، ويسبب وجعاً غير مفهوم وغير قابل لفكرة القياس .. تمكن مني في سن التاسعة، كان خوفاً يتدرج بسرعة جنونية إلى أوسع حالات الهلع ..
أستند على كوعي ناحية مصدر الضوء الخافت، لأجده باب الغرفة التي ننام فيها أنا وأخي مفتوحا عن آخره، أحاول في التحرك وكشف الغطاء كي أنهض، لأجد شبحاً يقف لي متربصا خارج الغرفة، أخاف منه وأنكمش .. أنظر إليه في تركيز شديد لرصد سرعة حركته مهما كانت بطيئة، فهذا الشيء لابد أنه يتحرك نحوي
أشعر بدموعي تنهمر داخل صدري، وخوف ضخم لطفل في التاسعة، صرخت كثيرا وكثيرا .. صِحتُ على أبي وأمي مرارا وتكرارا، لكن لم يستطع صوتي الخروج من براثن الخوف داخلي
كرهت الخوف لكثرة ظهوره في حياتي، وكنت أظنها حياة شاسعة وأنا في التاسعة، والآن وأنا أتحرك متراقصا في عامي الرابع بعد العشرين، ناسياً الخوف حتى أصبحت لا أعلمه إطلاقا .. أهمس بهذه الجملة لنفسي الآن :
المكالمة لم تنتهي مثلما كانت تنتهي دائما بيني وبين عمتي الصغرى، فتلك كانت المرة الأولى التي أجد نفسي في هذا الموقف، برودة فاقت برودة يناير القارصة حتى أنها كان لها وقع لم يكتف بالوصول إلى القلب وإنما أمسكه بيد شديدة القوة، لم أكن قد ميّزت من كلماتها سوى أنها بالمستشفى مع جدتي وأنهما على وشك العودة إلى المنزل، قبل أن تصمت وأسمع بكاءً حاراً بعيداً.. كنت قد علمت ورأيت .. أن جدتي زينب قد توفت
رحلت جدتي .. باقة ملونة من الرموز الجميلة رحلت، لم يكن خوفا بقدر ما كان رعباً من مدى صحة الفكرة، ومدى احتمالية صدق شعوري الذي لا يخيب أبدا في الشعور برحيل شخص ما، رعب يتضخم بسرعة جنونية، يعلم تماما هذا الألم من عاشه .. عندما تأتي فكرة رحيل شخص يحبه، تتضخم أمام عينيك وتبدأ في الشعور بكيانك يتضاءل، وتشعر كما لو أن رصاصة فضية لامعة .. ستخترق ما بين عينيك في أي لحظة، تثبت في جلستك أو وضعيتك وأنت تفكر، وتعتقد انك تتلفت حولك
يأتي التوتر كضبع يلتهمك بعد انتهاء الفكرة الموت منك، وأنت لا حول لك ولا قوة، قبل أن تنهمر الدموع وتشعر بغليان الألم على وجنتيك، تجد قلبك وروحك قد سبقاك في البكاء، إحساس يُجبرك أن تتابعه لتعلم مدى قلة حيلتك .. باختصار إحساس ظالم.
قبل أن أخرج من غرفة صديقي محمد الذي أصررت على ألا يرافقني، كنت قد بعثرت علبة سجائري وهاتفي المحمول وأوراق تلك المادة التي كنت استعد لامتحانها، ربما كان هذا السبب الذي جعلني أرى لأول مرة في نظرة شخص يعرفني إحساسا بالقلق عليّ،
الإسفلت لا يظهر من مساحات الطين والمياه الراكدة التي خلفتها أمطار غابت منذ أسبوع ولم تغب آثارها، أنتبه إلى قدمي كادت أن تنزلق وأنا أركض .. فلا اعلم إلى أين أركض أو متى بدأت الركض، الآن اعترف أنني أثناء عَدوي لم أكن أرى إلا صورة جدتي أمامي، وفي مسافة ال 6 أو 7 كيلومترات سمعت اسمي بصوتها يتردد في أذني بعدد موجات بحر تصيح على شاطئ في قرن كامل
أجد نفسي واقفا أمام المستشفى، ألهث كغزالة قلبها على وشك الانفجار، أنظر للمبنى باستعطاف مبالغ فيه، كما لو أن نظرتي ستجعله رحيما وأدخل لأجد جدتي مازلت بالداخل تنتظرني وتتلاشى كل تلك الهواجس بمجرد ارتمائي بين ذراعيها.
أجد على يساري مكتب استقبال، ورجلاً في بداية العقد الرابع من العمر يرتدي قميصاً أبيض، ويجلس في ملل يتابع برنامجا رياضيا لا أتذكر هل كانت مصارعة حرة أم كرة قدم ..
- لو سمحت .. أنا (أمي) جت هنا من حوالي ساعة وعايز أعرف هي في الدور الكام
* اسمها ايه ؟
- زينب العناني
* لا دي روّحت من شوية
- هي كويسة ؟
* لا .. دي ماتت
لم يكن هذا شيئا قابلا للتصديق، فجدتي زينب لا تموت، لا ترحل، جدتي زينب خالدة، شعرت بالإهانة ولا اعلم لماذا كنت قاسيا في ردي على هذا الرجل عندما سببته ولعنته،
أذهب أولا لذلك الشارع الذي تعودت على الغناء فيه عندما كنت أذهب لجدتي، أسير بخطوات شديدة الثقل، شعور طاغي بعدم التصديق يجتاح كل خلايايّ، أنوار الميدان لا تكفي لتنير تلك العتمة التي احتلتني
يرن هاتفي .. إنه أبي، ترى هل سيخدعني ؟ أم سيحاول أن يُلطف الخبر؟ أبي يعلم تماما مدى ارتباطي بجدتي التي ربتني ولطالما اهتمت بي، يعلم تماما كيف أحبها، أنظر لاسمه على شاشة الهاتف وأتعاطف معه للغاية، مهمة صعبة أن تخبرني بوفاة من أحب، أجيب الهاتف :
- ايوه يا بابا
* ايوه يا علي انت فين ؟
- أنا عرفت يا بابا وجاي
* طيب احنا هناك
أصل لبيت جدتي، أجد الباب مفتوحا، أسمع صوت بكاء ونحيب، أرى عماتي في ملابسهن السوداء، مازلت لا أصدق أن جدتي قد رحلت .. الجميع يبكون وأنا لا أصدق
أدخل الغرفة التي اعتدت الإقامة فيها لأجد جدتي ممدة على السرير، وقد فقدت عينيها الحياة .. ولم تفقد نظرة الرضا، تمتلئ عينيّ بالدموع ولا أبكي .. وأخرج
ولم أصدق أيضا أنها رحلت
إلى جدتي .. ربما يعلم الكثيرون مدى حبكِ لي .. ولكن لم يعلم أحدا حتى تلك اللحظة، أنني لا أصدق أنكِ رحلتي
لم يلاحظ أحد غيري حداد الشجر بجوار نافذتك التي اعتدت قراءة القرآن بجوارها، ولم يلاحظ أحد غيري أن السماء لم تمطر وإنما بكت، فلم تكن تلك أمطار وإنما كانت دموع السماء التي انهارت عندما علمت برحيلك
أحبك كما أحببتك وسأظل أحبك .. وسيظل صوتك يتردد داخلي .. ليعطيني من وجودك شيئا أشعر به ولا أتمكن من لمسه