Sunday, January 4, 2009

عن جدتي زينب .. أخيراً

المكالمة لم تنتهي مثلما كانت تنتهي دائما بيني وبين عمتي الصغرى، فتلك كانت المرة الأولى التي أجد نفسي في هذا الموقف، برودة فاقت برودة يناير القارصة حتى أنها كان لها وقع لم يكتف بالوصول إلى القلب وإنما أمسكه بيد شديدة القوة، لم أكن قد ميّزت من كلماتها سوى أنها بالمستشفى مع جدتي وأنهما على وشك العودة إلى المنزل، قبل أن تصمت وأسمع بكاءً حاراً بعيداً.. كنت قد علمت ورأيت .. أن جدتي زينب قد توفت

رحلت جدتي .. باقة ملونة من الرموز الجميلة رحلت، لم يكن خوفا بقدر ما كان رعباً من مدى صحة الفكرة، ومدى احتمالية صدق شعوري الذي لا يخيب أبدا في الشعور برحيل شخص ما، رعب يتضخم بسرعة جنونية، يعلم تماما هذا الألم من عاشه .. عندما تأتي فكرة رحيل شخص يحبه، تتضخم أمام عينيك وتبدأ في الشعور بكيانك يتضاءل، وتشعر كما لو أن رصاصة فضية لامعة .. ستخترق ما بين عينيك في أي لحظة، تثبت في جلستك أو وضعيتك وأنت تفكر، وتعتقد انك تتلفت حولك

يأتي التوتر كضبع يلتهمك بعد انتهاء الفكرة الموت منك، وأنت لا حول لك ولا قوة، قبل أن تنهمر الدموع وتشعر بغليان الألم على وجنتيك، تجد قلبك وروحك قد سبقاك في البكاء، إحساس يُجبرك أن تتابعه لتعلم مدى قلة حيلتك .. باختصار إحساس ظالم.

قبل أن أخرج من غرفة صديقي محمد الذي أصررت على ألا يرافقني، كنت قد بعثرت علبة سجائري وهاتفي المحمول وأوراق تلك المادة التي كنت استعد لامتحانها، ربما كان هذا السبب الذي جعلني أرى لأول مرة في نظرة شخص يعرفني إحساسا بالقلق عليّ،

الإسفلت لا يظهر من مساحات الطين والمياه الراكدة التي خلفتها أمطار غابت منذ أسبوع ولم تغب آثارها، أنتبه إلى قدمي كادت أن تنزلق وأنا أركض .. فلا اعلم إلى أين أركض أو متى بدأت الركض، الآن اعترف أنني أثناء عَدوي لم أكن أرى إلا صورة جدتي أمامي، وفي مسافة ال 6 أو 7 كيلومترات سمعت اسمي بصوتها يتردد في أذني بعدد موجات بحر تصيح على شاطئ في قرن كامل

أجد نفسي واقفا أمام المستشفى، ألهث كغزالة قلبها على وشك الانفجار، أنظر للمبنى باستعطاف مبالغ فيه، كما لو أن نظرتي ستجعله رحيما وأدخل لأجد جدتي مازلت بالداخل تنتظرني وتتلاشى كل تلك الهواجس بمجرد ارتمائي بين ذراعيها.

أجد على يساري مكتب استقبال، ورجلاً في بداية العقد الرابع من العمر يرتدي قميصاً أبيض، ويجلس في ملل يتابع برنامجا رياضيا لا أتذكر هل كانت مصارعة حرة أم كرة قدم ..

بصوت مرتجف خائف .. وجسد ينتفض .. وعينين تفيض بالدموع .. وروحا مذعورة .. وشفتين مرتبكتين .. أسأله :

- لو سمحت .. أنا (أمي) جت هنا من حوالي ساعة وعايز أعرف هي في الدور الكام

* اسمها ايه ؟

- زينب العناني

* لا دي روّحت من شوية

- هي كويسة ؟

* لا .. دي ماتت

لم يكن هذا شيئا قابلا للتصديق، فجدتي زينب لا تموت، لا ترحل، جدتي زينب خالدة، شعرت بالإهانة ولا اعلم لماذا كنت قاسيا في ردي على هذا الرجل عندما سببته ولعنته،

أذهب أولا لذلك الشارع الذي تعودت على الغناء فيه عندما كنت أذهب لجدتي، أسير بخطوات شديدة الثقل، شعور طاغي بعدم التصديق يجتاح كل خلايايّ، أنوار الميدان لا تكفي لتنير تلك العتمة التي احتلتني

يرن هاتفي .. إنه أبي، ترى هل سيخدعني ؟ أم سيحاول أن يُلطف الخبر؟ أبي يعلم تماما مدى ارتباطي بجدتي التي ربتني ولطالما اهتمت بي، يعلم تماما كيف أحبها، أنظر لاسمه على شاشة الهاتف وأتعاطف معه للغاية، مهمة صعبة أن تخبرني بوفاة من أحب، أجيب الهاتف :

- ايوه يا بابا

* ايوه يا علي انت فين ؟

- أنا عرفت يا بابا وجاي

* طيب احنا هناك

أصل لبيت جدتي، أجد الباب مفتوحا، أسمع صوت بكاء ونحيب، أرى عماتي في ملابسهن السوداء، مازلت لا أصدق أن جدتي قد رحلت .. الجميع يبكون وأنا لا أصدق

أدخل الغرفة التي اعتدت الإقامة فيها لأجد جدتي ممدة على السرير، وقد فقدت عينيها الحياة .. ولم تفقد نظرة الرضا، تمتلئ عينيّ بالدموع ولا أبكي .. وأخرج

ولم أصدق أيضا أنها رحلت

إلى جدتي .. ربما يعلم الكثيرون مدى حبكِ لي .. ولكن لم يعلم أحدا حتى تلك اللحظة، أنني لا أصدق أنكِ رحلتي

لم يلاحظ أحد غيري حداد الشجر بجوار نافذتك التي اعتدت قراءة القرآن بجوارها، ولم يلاحظ أحد غيري أن السماء لم تمطر وإنما بكت، فلم تكن تلك أمطار وإنما كانت دموع السماء التي انهارت عندما علمت برحيلك

أحبك كما أحببتك وسأظل أحبك .. وسيظل صوتك يتردد داخلي .. ليعطيني من وجودك شيئا أشعر به ولا أتمكن من لمسه

ابنك علي